فصل: قال محمد أبو زهرة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن حديث محمد بن إسحاق عن عبد الله بن عبد الملك بن أبي سفيان الثقفي- وكان راعية- قال: قدم رجل من إراش بإبل له مكة، فابتاعها أبو جهل بن هشام فمطله بأثمانها، وأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش- ورسول الله صلّى الله عليه وسلم جالس في ناحية المسجد- فقال: يا معشر قريش! من رجل يعينني على أبي الحكم بن هشام، فإنّي رجل غريب ابن سبيل، وقد غلبني على حقي، قال: فقال أهل المجلس: ترى ذلك الرجل؟- لرسول الله وهم يهزءون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة- اذهب إليه فهو يعينك عليه.
فأقبل الإراشيّ حتى وقف على رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا عبد الله، إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله، وأنا غريب ابن سبيل، وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يعينني عليه يأخذ لي حقي منه، فأشاروا لي إليك، فخذ لي حقي منه رحمك الله.
قال: انطلق إليه، وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلم معه، فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن كان معهم: اتبعه وانظر ما ذا يصنع.
قال: وخرج رسول الله حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال: من هذا؟ قال:
محمد، فاخرج إليّ، فخرج إليه وما في وجهه رائحة كذا قد انتقع لونه، فقال له: أعط هذا الرجل حقه، قال: نعم، لا تبرح حتى أعطيه الّذي له، فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه، ثم انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلم وقال للإراشيّ: ألحق بشأنك. فأقبل الإراشيّ حتى وقف على ذلك المجلس فقال: جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لي الّذي لي. قال: وجاء الرجل الّذي بعثوا معه فقالوا: ويحك! ما ذا رأيت.
قال: رأيت عجبا من العجب، والله إن هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال: أعط هذا حقه، قال نعم، لا تبرح حتى أخرج إليه حقه، فدخل، فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه.
قال: ثم لم يلبثوا أن جاءهم أبو جهل فقالوا له: ويلك! مالك؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت، فقال: ويحكم! إن هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت منه رعبا ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني.
ورواه أبو يزيد المدني وأبو قزعة الباهلي، أن رجلا كان له على أبي جهل دين فلم يعطه له، فقيل له: ألا ندلك على من يستخرج لك حقك؟ قال: بلى، قالوا: عليك بمحمد بن عبد الله، فأتاه فجاء معه إلى أبي جهل فقال: أعط حقه، قال: نعم، فدخل البيت فأخرج دراهمه فأعطاه إياه، فقالوا لأبي جهل: فرقت من محمد كل هذا؟ قال: والّذي نفسي بيده لقد رأيت معه رجالا معهم حراب تلألأ. وقال أبو قزعة في حديثه: حرابا تلمع، لو لم أعطه لخفت أن تنفخ بها بطني.
ورواه ابن حبان عن الحسن بن محمد قال: قال أبو زرعة الرازيّ عن شيبان بن فروخ وقال: حدثنا سلام بن مسكين، حدثنا أبو يزيد المدني وأبو قزعة مثله وقد تقدم قوله صلّى الله عليه وسلم: ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم؟ يشتمون مذمما ويلعنون مذمما، وأنا محمدا! اهـ.

.قال محمد أبو زهرة:

وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالت كلماته: {إن الله لا يهدي القوم الكافرين}.
والهداية التي ينفيها هذا النص الكريم هي الوصول إلى الحق، لأن الجحود قد ران على قلوبهم بما كسبوا من شر، وما اجترحوا من سيئات، وما لجت به نفوسهم من عناد، وهم لا يصلون إلى النيل من الحق وتعويق الدعوة، وعبر عن الكافرين بالقوم للإشارة إلى أنهم مهما تعددت أجناسهم وتباينت عناصرهم يلتقون عند غاية واحدة، وهى معاندتك والكفر بما جئت به، فهم بذلك التآلف في الإنكار صاروا كأنهم قوم متحدون.
وإذا كان الكفر قد جمعهم فإنه لا يفرق بينهم كون بعضهم كتابيا، وبعضهم أميين، فلا فضل للكتابيين على الوثنيين في الكفر، ولا شرف بكونهم أهل كتاب ما داموا لم يؤمنوا به ولم يقيموه، ولذا قال تعالى: {قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم}. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} الآية.
أمر تعالى في هذه الآية نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أُنزل إليه، وشهد له بالامتثال في آيات متعدِّدة كقوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم} [المائدة: 3]، وقوله: {وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [النور: 54]، وقوله: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُوم} [الذاريات: 54]، ولو ك ان يُمكن أن يكتم شيئًا، لكتم قوله تعالى: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاه} [الأحزاب: 37]، فمن زعم أنه صلى الله عليه وسلم، كتَم حرفًا أُنزل عليه، فقد أعظم الافتراء، على الله، وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال صاحب التفسير الواضح:

نادى اللّه سبحانه وتعالى حبيبه بوصف الرسول، التي تقتضي التبليغ التام الكامل، أيها الرسول: بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك ولا تخش أحدا، ولا يهمك شيء أبدا، فإنك إن لم تبلغ الكل فما بلغت رسالته، فكأن كتمان شيء من الرسالة، ولو إلى أجل هو كتمان للكل تفظيعا لجرم الكتمان، وكيف يكتم الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم شيئا من الرسالة خوفا أو خشية؟ واللّه يعصمك من الناس أجمعين. ويعصمك من القتل والفناء، أما العذاب والشدائد والآلام والحروب والإحن فهي الحوادث التي تخلق الرجال، والبوتقة التي صهرت الناس فظهر المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، كما بينا ذلك في العزوات.
وكيف يكون رسول اللّه واللّه لا يعصمه؟ وهو المعصوم من كل سوء!! انظر كيف يضل المسيحيون حين يعتقدون صلب المسيح وقتله؟ ولعل الحكمة في هذه الآية، أن يعرف الجميع أن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم رسول رب العالمين، بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه لم يكتم شيئا، ولم يخص أحدا بشيء وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام آية 153] إن اللّه لا يهدى القوم الكافرين الذين يؤذونك ويعاندوك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيًّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ}.
لا تكتم شيئًا مما أوحينا إليك مُلاَحَظَةً لِغَيْرٍ، إذ لا غير- في التحقيق- إلا رسوم موضعة، وأحكام القدرة عليها جارية.
ويقال بَيِّنْ للكافة أنك سيِّدُ ولد آدم، وأنَّ آدم دون لوائك.
ويقال بلِّغْ ما أُنْزِلَ إليك أنِّي أغفر للعصاة ولا أبالي، وأردُّ مِنَ المطيعين مَنْ شِئْتُ ولا أُبالي.
قوله جلّ ذكره: {وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِى القَوْمَ الكَافِرِينَ}.
يحفظ ظاهرك من أن يَمَسَّكَ أذاهم، فلا يتسلط بعد هذا عليك عدوٌّ، أو يصون سِرَّك عنهم حتى لا يقع احتشامٌ منهم.
ويقال يعصمك من الناس حتى لا تغرق في بحر التوهم؛ بل تشاهدهم كما هُمْ؛ وجودًا بين طرفي العَدَم. اهـ.

.من فوائد الثعلبي في الآية:

قال رحمه الله:
{يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ}.
اختلفوا في تنزيل هذه الآية وتأويلها فروى محمد بن كعب القرضي عن أبي هريرة قال: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا نزل منزلًا اختار له أصحابه شجرة ظليلة فينزل تحتها ويقيل، فنزل ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه إعرابي وأخذ السيف من الشجرة واخترطه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، فقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: اللّه. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف منه وضرب برأسه الشجرة حتى إنفرد ساعة فأنزل اللّه الآية».
وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس، قال: وقالت عائشة: فكنت ذات ليلة إلى جنبه فسهر تلك الليلة، فقلت: يا رسول اللّه ما شأنك؟ فقال: «ليت رجل صالح حرسني الليلة» قالت: فبينما نحن في ذلك حتى سمعت صوت السلاح. فقال: من هذا؟ قال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت الآية فأخرج رسول اللّه صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أديم وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عصمني اللّه عز وجل».
وروى الحسن مرسلًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لمّا بعثني الله برسالته فضقت بها ذرعًا وعرفت إن من الناس من يكذبني» وكان عتابه قريشًا واليهود والنصارى فأنزل اللّه الآية، قلت: ولما نزل قوله: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الأنعام: 108] سكت النبي عليه السلام عن عيب الهتهم فأنزل اللّه تعالى: {يا أيها الرسول بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ} [المائدة: 67] يعني معايب آلهتهم.
وقيل: «نزلت في عيب اليهود وذلك إنه عليه السلام دعا اليهود إلى الإسلام وقالوا: أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به ويقولون: تريد أن نتّخذك عيانًا كما اتخذت النصارى عيانًا عيسى، فلما رأى النبي عليه السلام ذلك سكت فحرضه اللّه على دعائهم إلى الإسلام وأمره أن يقول لهم.
{يا أهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ} الآية»
.
قال الحسين بن الفضل: وهذا أولى الأقاويل لأنه ليس بين قوله بلّغ ما أنزل إليك وبين قوله لستم على شيء فصل.
فلما نزلت الآية قال عليه السلام: «لا يأتي من عندي ومن نصرني». وقيل: نزلت في قصة عيينة بن حصين وفقراء أهل الصفة وقيل: بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص ومرّ في قصة. وقيل: بلغ ما أنزل إليك من أمر نسائك. وذلك أن رسول اللّه لما نزلت آية التخيير لم يكن يعرضها عليهن خوفًا من اختيارهن الدنيا فأنزل اللّه، وقيل: بلغ ما أنزل إليك في أمر زينب بنت جحش، وقيل: نزلت في الجهاد، وذلك إن المنافقين كرهوه، قال الله: {فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال} [محمد: 20] الآية وكرهه أيضًا بعض المؤمنين قال الله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] الآية، وكان عليه السلام يمسك في بعض المسلمين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة القوم فأنزل اللّه الآية.
وقال أبو جعفر محمد بن علي: معناه: بلّغ ما أنزل إليك في فضل علي بن أبي طالب، فلما نزلت الآية أخذ عليه السلام بيد علي، فقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه».
أبو القاسم يعقوب بن أحمد السري، أبو بكر بن محمد بن عبد اللّه بن محمد، أبو مسلم إبراهيم ابن عبد اللّه الكعبي، الحجاج بن منهال، حماد عن علي بن زيد عن عدي بن ثابت عن البراء قال: لما نزلنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع كنّا بغدير خم فنادى إن الصلاة جامعة وكسح رسول اللّه عليه الصلاة والسلام تحت شجرتين وأخذ بيد علي، فقال: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «ألست أولى بكل مؤمن من نفسه»؟ قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: «هذا مولى من أنا مولاه اللهم والِ من والاه وعاد من عاداه». قال: فلقيه عمر فقال: هنيئًا لك يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة.
روى أبو محمد عبداللّه بن محمد القايني ن أبو الحسن محمد بن عثمان النصيبي ن: أبو بكر محمد ابن الحسن السبيعي ن علي بن محمد الدّهان، والحسين بن إبراهيم الجصاص قالانا الحسن بن الحكم ن الحسن بن الحسين بن حيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله: {يا أيها الرسول بَلِّغْ} قال: نزلت في علي رضي الله عنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغ فيه فأخذ عليه السلام بيد علي، وقال: «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه».
وبلغ ما أنزل إليك في حقوق المسلمين فلما نزلت الآية خطب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أي يوم هذا الحديث في خطبة الوداع، ثم قال: «هل بلّغت».